أختي الصغرى تمسح دمعة تسربت من مقلتيها بدون إرادتها أو إذنها ، لم تشعر بها حتى رسمت خطا واضحا فوق خدها المفعم بالمشاعر .
شعرت برغبة في البكاء تأثرا بالموقف ، لكني تمالكت نفسي بصعوبة بالغة ، كان الموقف رهيبا ومعذور من لم يتحمله ، في ذاك الوقت كان الحي هادئا ، فهو ليس كالمعتاد بتاتا، حيث عادة ما يكون صراخ الأطفال قبيل الظهر يملأ أرجاء الحي وهم يركضون وراء كرة عتيقة أهداها لهم العم حسن صاحب دكان إصلاح الأحذية في زاوية صغيرة من الحي ، لقد ولد في نفس الحي وهو يبلغ الأن ال60 من العمر ، بشوش دائما ومحب للأطفال وكثير الوعظ والنصح، وهو في هذا الوقت من الظهيرة يكون منهمكا في إصلاح آخر فردة حذاء استعدادا لإقامة صلاة الظهر.
الجار سعيد يخطو نحو بيته وهو راسم على وجهه تلك الابتسامة التي أخفت صباحا كاملا من التعب في السوق المركزي من كثرة حمل صناديق الخضر،
وابنه أكرم ذو الخمس سنوات ينطلق من زاوية بيته نحو أبيه ويعانقه عناق مشتاق لحبيب وهو يقلب بعينيه ما يحمله داخل الكيس من مفاجئات قد تطفئ عطش اشتياقه.
الحي صاخب بالحياة، كلما مررت به عند الظهيرة وأنا عائد من حصة ركض في ملعب الحي أحسست وكأني أدخله لأول مرة وأتعرف على أناسه، فابتسامتهم متجددة ، و تعاونهم المستمر جعل من الحي روضا غنيا بالقناعة والرضي بحلو الحياة ومرها...
لكن يوم الأحد هذا ليس كعادته، اختفى الأطفال، وجارنا سعيد لم يذهب للعمل اليوم، وكل الجيران ساكنون في بيوتهم دون أدنى حركة. حتى في منزلنا خيم السكون تلك اللحظة،وأختي الصغيرة التي كانت ترتمي بأحضاني كلما رأتني داخلا إلى المنزل لم أجدها تنتظرني !لقد مرت تلك اللحظة وكأن الحي الذي عهدته لم يكن له وجود؟
وكان السبب بالطبع هو متابعة المسلسل المكسيكي "حبيبي يفارق الحياة"
لطالما كرهت هذا المسلسل بالذات ، فقد سلبني متعة تأمل حينا كل يوم أحد عند وقت الظهيرة، لكن ما أشعل غضبي هو المقطع الذي كان البطل فيه يحتضر والبطلة بقربه والحزن والبكاء يخيم على جوهما ،لأنه وللأسف انتقل جو الحزن والبكاء إلى حينا وانتشر كالنار في الهشيم بين أرجائه ، فمللت الجو وعزلت نفسي بركن الصالون متجاهلا المقطع ومتأملا وجوه إخوتي التي لم تستطع مقاومة مشهد الحزن فعاشت معه وكأنها جزء منه.
تمنيت لو يموت البطل بسرعة وتعود الحياة إلى الحي الذي غابت عنه منذ الظهيرة، لم أستطع الصبر ، فقفزت من فوق الأريكة محدثا ضجة لم تلق اهتماما من إخوتي الغارقين في جو البؤس مع البطل المحتضر، وهممت مغادرا المنزل قاصدا العم حسن الذي بقي وحده متمسكا بقطعة من حياة لم تفارق دكانه أبدا.
لكن فجأة سمعت صراخا عاليا لأختي الصغيرة وهي تقول:
ـــــــــــــ لالالالالا ،لقد فعلها الأوغاد ، تبا لهم تبا لهم !!!
لم أعرف ماذا حصل، فأسرعت إليها مفزوعا مما يكون قد حصل وهي ما زالت تصرخ.
شارك إخوتي الآخرون في الصراخ والسب والشتم، سألتهم عن عجل واضطراب عما حصل ،فصمتوا لبرهة وعيونهم مشتعلة غضبا وتتطاير منها شرارات متعطشة للانتقام ، لم أنتظر الجواب عندما رأيت شاشة التلفاز سوداء قاتمة كأنها فارقت الحياة.
تساءلت:
هل انقطع تيار الكهرباء ؟
تقدمت أختي الصغرى وصرخت بلهجة شديدة :
الأوغاد ، طول ال50 حلقة لم يقطعوا الكهرباء ولو لمرة واحدة ، وفي الحلقة الأخيرة من المسلسل لم يمهلونا حتى دقائق لمعرفة مصير البطل هل فارق الحياة أم لا؟
أطلقت بعدها تنهيدة كتنهيدة من انقطع به حبل المشنقة، وتبعتها بابتسامة عريضة محاولا إخفائها مواساة لأختي الصغرى التي لم تستوعب فوات المقطع بعد.
توجهت صوب باب المنزل متتبعا صوت الجلبة في الحي ومتطلعا في أرجائه، فرأيت الجيران يتناسلون إلى الخارج والأطفال يتبعونهم، توجه جارنا سعيد نحوي مستفسرا:
هل انقطع التيار عندكم أيضا؟ فهمت حينها أن التيار مفقود في الحي كله.
إذن شاشات التلفاز كلها فارقت الحياة ! قلتها وأنا أضحك، وتزامن ذلك مع رفع الأذان لصلاة الظهر وإعلان عودة الحياة إلى حينا.